ماكيافيللي والواقع السياسي في المدى الإنساني
لقد حاول بعض الفلاسفة عبر مصطلح النهضة renaissance أن يقدموا إسهاماتهم حول التواجد الحضاري الإنساني الجديد في مجالات الإبداع الفكري والفني بحيث جعلوا من مصطلح النهضة التي غدت تشكل نقلة كبيرة مضموناً شاملاً في مسيرة التطوّر البشري التي تعدّت آثارها الحدود الأوروبية بشكل يحس فيه المرء الى هذا اليوم إشعاعاتها النيّرة أي أفادوا من القدرات والمصادر المهمّة جدّاً للباحثين في المجال الإنساني ،
ومنهم المفكّر السياسي نيكولودي برناردشو ماكيافيللي الذي ينتمي إلى أسرة فلورنسية نبيلة عريقة تدهور وضعها الاقتصادي إلى حد الإفلاس قبل مجيئه للحياة . وبعد طرد الأسرة الحاكمة ميديجي من فلورنسا وإعلان النظام الجمهوري فيها عام 1498م تعاون ماكافيللي بحماس مع النظام الجديد وشغل منصب أمين مجلس العشرة الذي كان يشرف على قضايا الدفاع والسياسة الخارجيّة لجمهوريّة فلورنسا . وبعد الإطاحة بالمؤسسات الجمهوريّة وعودة ميديجي عام 1512م إلى السلطة أبعد ماكافيللي من منصبه ، وبعد فترة ألقي القبض عليه بتهمة الإشتراك بمؤامرة استهدفت النظام الجمهوري. وفي حقيقة الأمر إن ماكافيللي قد خلّف وراءه مجموعة من المؤلفات التي قدّمت للإنسانيّة الشيء الكثير فقد اعتبر ماكافيللي في البداية ،الجمهوريّة نظاماً أمثل للحكم وخدمها بصدق في مطلع حياته العمليّة . لكن بعد تحليله للأوضاع القائمة في إيطاليا والتي تميّزت باستفحال الحروب والخلافات بين مدنها ومقاطعاتها وبالضعف المتناهي الذي جعلها هدفاً سهلاً للغزو الأجنبي المستمر توصّل في الآخر إلى الاستنتاج بأن خير نظام يمكنه تحقيق وحدة إيطاليا والذود عنها هو ذلك النظام الذي يستند إلى سلطة مركزيّة دكتاتوريّة مطلقة قويّة لا تقف في سبيلها الإعتبارات الدينيّة والدنيويّة .
وإن مصالح الدولة العليا ،وبوجه خاص، وحدة البلاد ،تبرّر في رأيه لجوء الأمير أو الملك إلى جميع السبل كاستخدام القوة التي تشكّل كما كان يؤكد أساس الحق ،ولكن النظر إلى ماكافيللي يكون من زاوية أخرى تماماً –على حد تعبير الدكتور كمال مظهر أحمد-النهضة ط1979م منشورات وزارة الثقافة والفنون ،فهو كان قبل كل شيء وطنيّاً مخلصا ًمتشوّقاً إلى تحرير بلاده التي أحبّها أكثر من روحه كما جاء في إحدى رسائله الخاصّة ((echabold,machiavelli and renaissance,Cambridge,1960,p.141)) كما وقف ماكافيللي بشدّة ضد سياسة الإقطاعيين والبابويّة لأنّه اعتبرهما من أهم العراقيل التي تحول دون تقدّم عملية التوحيد السياسي واعتبر تعاليم الكنيسة بمثابة عبء يحول دون إبداع النشط للإنسان ،إلّا أن هذا لا يعني أن ماكافيللي كان يناهض الدين بل على العكس كان يؤمن بإمكانية تحويله إلى أداة سياسيّة فاعلة في حياة الشعب كما انتقد ماكافيللي بشدة النظام العسكري القائم في البلاد لاعتماده على المرتزقة الوقتيين الذين وصفهم كحثالات المجتمع لا يهمهم سوى النهب فدعا إلى تأسيس جيش منظّم دائمي يعتمد على التجنيد العام للشباب –وهذه العبارات كم هي مهمّة وذلك لأن ماكافيللي قصد الميليشيات المسلّحة وأثرها في تكوينات المجتمع وهذه دعوة إلى تبنّي منهجيات حقيقيّة في إدارة البلاد والتأكيد على وحدة الجيش والشرطة والإبتعاد عن تكوين الميليشيات المسلّحة ، التي تعيث فساداً في الدولة أجهزتها ، والاعتماد على الشباب حتّى يتحوّل إلى قوّة تحرير وردع حقيقيّة بيد الأمير الدكتاتور فقد كان ماكيافيللي يحلم مخلصاً بأن تتحرّك جيوش المدن الإيطاليّة ((بدافع الأهداف الوطنيّة ))كي يغدو بإمكان الطليان رفع كرامتهم عالياً. كما لعبت آراء ماكافيللي السياسيّة دوراً مهمّا في تطوير الدراسات التاريخيّة ونظرياتها فقد تخطّى في بحوثه حدود التفسير البراغماتي للأحداث في وقت مبكّر وبدأ ينظر إلى الدولة وقوانينها نظرة واقعيّة نابعة من التجربة والتحليل لأمن اللّاهوت ونظرية الحق الإلهي في الحكم كما آمن بحتميّة الأحداث التاريخيّة وبالترابط فيما بينها بغض النظر عن إرادة المشتركين فيها وتوصّل إلى رأي غاية في الأهميّة بأن الصّراع السياسي هو المحرّك الأساس للتاريخ وغالباً ما يتخذ ذلك الصراع طابعاً اجتماعيّاً وطبقيّاً ما دام يوجد –كما ذكر في كتاباته-تناقض مستفحل بين مصالح الشعب والفئات المالكة ففي كتابه الضخم تاريخ فلورنسا يتتبع النضال بين الجماهير والارستقراطية ومما زاد في الإساءة إلى سمعة ماكافيللي وآرائه موقف الكنيسة المعادي منه وقرارها منع تداول كتبه علما بأنه ألف (تاريخ فلورنسا)تلبية لطلب البابا نفسه وأساء إليه تأكيد العديد من المؤرخين البرجوازيين لاسيما علماء الإجتماع على نظريته حول السلطة الدكتاتورية المطلقة بشكل مجرد وسكوتهم المطبق عن أفكاره حول النظام الجمهوري الذي أقرّ بأنه خير نظام للحكم لأن في ظله تقرّر الكفاءة ، كما تجدر الإشارة إلى أن ماكافيللي كان ذا باع طويل في الأدب فقد خلف من بعده عدداً من الأناشيد والقصائد والرسائل والكتابات النثرية التي انتقد فيها بشدة تقاليد المجتمع البالية مع سلبيات الكنيسة وقد أغنى بها الأدب الإيطالي بقوة ووضوح وعمق آدائها السلس البعيد عن الإسهاب والإطناب وحسبنا أننا لانبتعد عن الواقع إذا قلنا أن مؤرخ عصر النهضة الكبير يستحق بجدارة الكلمات المعبّرة التي حفرت على شاهدة ضريحه في فلورنسا تخليداً لذكراه _((إنّ للمديح أن يفي هذا الاسم حقه))-لم يكن ماكافيللي الوحيد من بين أعلام النهضة الذي اصطدم بالواقع فقد شاركه في ذلك إنسانيون آخرون عاصروا المرحلة الأخيرة من النهضة . وفي هذا الصدد لايمكن أن ننسى كتابه ( الأمير ) الذي تأثر به العديد من سلاطين ومستبدي العالم الحديث والذي –على الرغم من صغر حجمه – طرح الكثير من الآراء حول استخدام السلطة . هذا الكتاب حفر أخاديد في الخريطة السياسية بحكم اعتماده المذهب البراغماتي الغائي الذي يعتمد فكرة : الغاية تبرّر الواسيلة !