الديمقراطية
الديمقراطية التي هي حكم الشعب بالشعب ولصالح الشعب، عمل يدعو إليه القرآن الكريم، ويجعله من النظم التي لا غنى عنها للأمة الإِسلامية.
والمصدر الذي نعتمد عليه في التدليل على ما نذهب إليه من قول ـ آيات من القرآن الكريم، وقف عندها من قبل جماعة من الذين جمعوا بين العمل السياسي والزعامة الدينية. ونخص بالذكر منهم السيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الأستاذ الإِمام الشيخ محمد عبده، وتلميذ تلميذه السيد محمد رشيد رضا.
وقف عندها السيد جمال الدين الأفغاني عندما قام جماعة من أبناء المسلمين المشتغلين بالقضايا الوطنية يطالبون الخليفة التركي بإصدار الدستور وحكم البلاد الإِسلامية حكماً ديمقراطياً.
ووقف عندها الأستاذ الإِمام وتلميذه السيد محمد رشيد رضا في تفسيرهم للقرآن الكريم، على أنها من النظم الإِسلامية ذات الأصول القرآنية.
والآيات التي وقف عندها هؤلاء ثلاث. نخص بالذكر منها:
1ء قوله تعالى.. (والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون).
2ء قوله تعالى.. (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).
3ء قوله تعالى.. (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
وثالث هذه الآيات أدل على النظام النيابي من الآيتين الأولى والثانية في نظر الأستاذ الإِمام. وحجته في ذلك:
(أ) إن الآية الأولى وصف خبري لحالة طائفة مخصوصة أكثر ما تدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه، محمود عند الله.
(ب) إن الآية الثانية فيها أمر بالمشاورة يقتضي وجوبه على المأمور بالمشاورة وهو الرئيس الذي يلي الحكم ـ ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يكون إذا هو تركه؟.
(ج) إن الآية الثالثة تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وهو عام في الحاكمين والمحكومين. ولا معروف أعرف من العدل. ولا منكر أنكر من الظلم.
ويعلق الشيخ رشيد رضا على هذه الفقرة من كلام الأستاذ الإِمام بقوله:
ومعنى الآية على هذا الوجه أنه يجب أن تكون قوة المسلمين تابعة لهذه الأمة التي تقوم بفريضة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فهي بمعنى مجالس النواب في الحكومات الجوهرية، والملكية المقيدة.
فكأن الآية بيان لكون أمر المسلمين شورى بينهم..
ومجيء النص الأول في الذكر بصيغة الخبر يؤكد كونه فرضاً حتماً ـ كما عهد نظيره في الأساليب البليغة.
والنص الثاني صريح في الوجوب. والضامن له الأمة المخاطبة بالتكاليف في أكثر النصوص.
وإنما الآية الأخيرة تفصيل لكيفية الضمان.
والآية الأولى تثبت من غير شك أن القرآن قد وقف إلى جانب الديمقراطية يمتدحها، ويحض على القيام بها، ومن قبل أن تكون هناك دولة عربية ـ لأن الآية مكية، والسورة أسمها سورة الشورى. ولم تكن في مكة دولة ما قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ـ وهذا هو الذي يجعل الدعوة دعوة أصيلة وليست بنت الظروف ـ إنها دعوة إلى مبادئ لابد من تحقيقها عملياً في المستقبل.
وموطن المشاورة عندهم ليست العقائد والعبادات وإنما هي المصالح الدنيوية من أمور السلم والحرب السياسية والاقتصادية وما أشبه.
والديمقراطية من حيث هي مبدأ سياسي أو اجتماعي دعا إليه القرآن الكريم، وامتدح القائمين به وعليه.
1ء إن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان، وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجاً. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد، وأن الله سيفتح لأمته الممالك ويخضع لها الأمم ـ وقد بشرها بذلك.
كل هذا كان مانعاً من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإِسلامية في عام الفتح وما بعده من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي العصر الذي يتلو عصره، إذ تفتح الممالك الواسعة، وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية ـ في الإِسلام إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن.
والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك، وعلى حال غيرهم.
فكان الأحكم أن يترك صلى الله عليه وسلم وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بها.
2ء إن النبي صلى الله عليه وسلم ول وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون ديناً، وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان. وما هي من أمر الدين.. ولذلك قال الصحابة في اختيار أبي بكر حاكماً:ـ رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟
فإن قيل. كان يمكن أن يذكر فيها أنه يجوز للأمة أن تتصرف فيها عند الحاجة بالنسخ، والتغيير؛ والتبديل.
نقول:ـ إن الناس قد إتخذوا كلامه صلى الله عليه وسلم في كثير من أمور الدنيا ديناً.
مع قوله: ما كان من أمر دينكم فإلي؛ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به.. رواه أحمد.
وإذا تأمل المنصف المسألة حق التأمل، وكان ممن يعرف حقيقة شعور طبقات المؤمنين من العامة والخاصة، في مثل ذلك، يتجلى له أنه يصعب على أكثر الناس أن يرضوا بتغيير شيء وضعه رسول الله للأمة ـ وإن أجاز لهم تغييره.
بل يقولون: إنه أجاز ذلك تواضعاً منه وتهذيباً لنا ـ حتى لا يصعب علينا الرجوع عن آرائنا. ورأيه هو الرأي الأعلى في كل حال.
3ء إنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه صلى الله عليه وسلم لكان غير عامل بالشورى ـ وذلك محال في حقه لأنه معصوم من مخالفة أمر الله.
ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم ـ كما فعل في الخروج إلى أحد. وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفاً لرأيه صلى الله عليه وسلم ـ فهل يرضى أن يحكم أمثال أولئك القوم ومن دونهم، كأكثر من دخل في الإسلام بعد الفتح، في أصول الحكومة الإسلامية وقواعدها؟.
هيكل النظام النيابي:
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقعد القواعد، ولو يؤسس البناء لذلك النظام النيابي الذي قرره القرآن الكريم للإِعتبارات التي ذكرت في تفسير المنار، فليس معنى ذلك أن أحداً غير النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر في ذلك. فإن من المسلمين العالمين بالأمور الدينية والأمور السياسية من يرى أن مواريثنا التاريخية تعطينا من القواعد أسساً نستطيع أن نقيم عليها ذلك النظام.
(أ) ومن هؤلاء الفيلسوف الهندي المسلم السيد محمد إقبال. فقد ذكر لنا في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام. ما يفيد أن النظام الذي كانت تتم على أساس منه الأحكام التشريعية الصادرة عن الأصل الثالث المسمى بالإجماع صالح كل الصلاحية إذا أمتد واتسع ـ أمتد ليشمل كل المسائل دينية وغير دينية، واتسع ليشمل المتخصصين في كل علم وفن وليس في الفقه الإِسلامي فقط ـ أن يكون أساساً قوياً متيناً للنظام النيابي.
يقول السيد محمد إقبال:ـ والإجماع قد يكون أهم الأفكار التشريعية في الإسلام..
وتحول الإجماع إلى نظام تشريعي ثابت كان يتعارض مع المصالح السياسية للحكم المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد عهد الخليفة الرابع مباشرة..
وأحسب أن خلفاء بني أمية وبني العباس رأوا أن مصلحتهم تتحقق بتفويض الإجتهاد إلى أفراد من المجتهدين أكثر مما تتحقق تشجيع تأليف جماعة دائمة من المجتهدين ربما تصبح صعبة المراس عليهم..
2ء ومنهم أيضاً صاحب تفسير المنار ذلك الذي ارجع قاعدة البناء التنظيمي النيابي إلى صنيع النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه، وإلى نص الآية القرآنية الكريمة:
(يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم..) ذلك لأن الأستاذ الإِمام وتلميذه الشيخ رشيد رضا قد اتفقا على أن المقصود بأولي الأمر في الآية ليس الحكام ولا السلاطين كما يظن بعض الناس. وإنما هم الذين يلون أمور الناس ممن يدركون المسائل الإدراك السليم، ويعرفون وجه الحق في كل مسألة بحيث لا يخطئون الحكم، ولا يضطربون في التفكير..
والحجة التي يذهب إليها الجميع هي بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للآية. فقد كان صلى الله عليه وسلم يستشير أولي الأمر من الصحابة، ولم يكن إلى جانبه صلى الله عليه وسلم سلطان أو أمير حتى يمكن تفسير العبارة به.
المحكمة الدستورية العليا
ويجب على الأمة قبول هذه الأحكام والخضوع لها سراً وجهراً.
وهي لا تكون بذلك خاضعة خانعة لأحد من البشر، ولا خارجة من توحيد الربوبية الذي شعاره: إنما الشارع هو الله.
فإنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى، أو حكم رسوله بإذنه، أو حكم نفسها الذي أستنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد، والعلم والخبرة، من أفرادها الذين وثقت بهم واطمأنت إلى إخلاصهم وعدم إتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها ـ فهي بذلك تكون خاضعة لوجدانها لا تشعر بإستبداد أحد فيها، ولا بإستذلاله واستعباده لها، بل يصدق عليها ما دامت لحكومتها على هذا الوجه بقية: أنه أعز الناس نفوساً، وأرفعهم رؤساء.
وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أيضاً. أن عصرنا الحديث وما وصل إليه من تقرير لحقوق الإنسان لا تختلف باختلاف الجنس أو اللغة أو الدين يأذن لنا في أن نقول:
1ء إنه لا مانع عندنا مطلقاً في أن يكون من بين أولي الأمر من هم على غير دين المسلمين من إخواننا المسيحيين.
إن القرآن الكريم الذي أحل لنا طعامهم، وأباح لنا التزوج منهم، لن ينكر عليهم أبداً الرأي، وتبين الحق، فيما هو من اختصاصاتهم.
إنهم يستطيعون أن يكونوا خبراء في ميادين كثيرة. مثل الصحة، والتجارة، والزراعة، والصناعة، والتعليم، وما أشبه. ومن حقهم علينا، ومن مصلحتنا العامة أن نفسح لهم المجال.
إنهم منا، ومن أولياء أمورنا فيما يحسنون فيه الولاية.
2ء أنه لا مانع من أن نضمن دستورنا بعض النصوص المقدسة التي تحتوي مضموناً إنسانياً، وتصلح لعصرنا هذا ـ وليس فيما نطالب به خروجاً على المألوف في هذا العصر. فنحن نعلم أن أمماً كثيرة تضمن دساتيرها بعض تقاليدها، وشيئاً غير قليل من مواريثها التاريخية، ولم يذهب إنسان ما إلى أن هذا من وضع الشيء في غير موضعه.
إن قيمنا الروحية جزء من شخصيتنا، ولن نتخلى عنها إلا إذا ضعفت هذه الشخصية، أو أصبحت هذه القيم غير صالحة للحياة.
3ء أن القرآن إنما يهدف إلى تحقيق السعادة للإنسان في حياتيه الأولى والثانية، أو الدنيا والآخرة.
وأن الديمقراطية في عصرنا هذا ليست إلا شكلاً من أشكال التنظيم السياسي للمجتمع ـ شكلاً يخدم أهدافاً ومصالح معينة.
وأن الأهداف التي تحققها الديمقراطية القرآنية ليس إلا تحقيق السعادة للفرد في هذه الدنيا على أقل تقدير.
والوسيلة إلى تحقيق هذه السعادة ـ فيما يشير به القرآن الكريم ـ هي المشاركة في إدارة الشئون العامة كأنما هي شئون الأفراد الخاصة.
وقد طلب القرآن الكريم إلى النبي أن يعود الناس على هذه المشاركة. واستجاب النبي إلى القرآن، وشاور الصحابة في الجليل من الأمور ليربي فيهم هذه العادة من غير حاجة إلى جهاز القهر والإكراه.
فقد كان أمرهم شورى بينهم.
وصدق الله العظيم حين امتدحهم.