يقول الشيخ على الطنطاوي: « أسرد عليكم قصة أسرة أمريكية فيها ستة أولاد، أبوهم فلاح متين البناء قويّ الجسد ماضي العزم، وأمهم امرأة عاقلة مدبّرة حازمة، فتربى الأولاد على الصبر والاحتمال حتى صاروا رجالاً قبل أوان الرجولة.
وخرج الصغير يومًا يلعب، وكان في الثالثة عشرة، فقفز من فوق صخرة عالية قفزة وقع منها على ركبته، وأحس بألم فيها، ألم شديد لا يصبر عليه ولد مثله، ولكنه احتمله وصبر عليه، ولم يخبر أحدًا وأصبح فغدا على مدرسته يمشي على رجله، والألم يزداد وهو يزداد صبرًا عليه، حتى مضى يومان فظهر الورم في رجله وازرقَّ، وعجز أن يخطو عليها خطوة واحدة، فاضطربت أمه وجزع أبوه وسألاه عن خبره؟ فأخبرهما الخبر فأضجعوه في فراشه وجاءوا بالطبيب فلما رآها علم أنه قد فات أوان العلاج وأنها إن لم تُقطع فورًا مات الولد من تسمم الدم، فانتحى بأبيه ناحية وخبّره بذلك همسًا، يحاذر أن يسمع الولد قوله، ولكنّ الولد سمع، وعرف أنها ستقطع رجله، فصرخ: لا، لا تقطعوا رجلي، لا تقطعوا رجلي، أبي أنقذني، حاول أن يقفز على رجل واحدة ويهرب منهم فأمسك به أبوه وردَّه إلى فراشه، فنادى أمه نداء يقطع القلوب: أمي، أمي، أنقذيني، أمي ساعديني، لا يقطعوا رجلي، ووقفت الأم المسكينة حائرة تحس كأن كبدها تتمزق؛ قلبها يدعوها إلى نجدة ابنها ويفيض حنانًا عليه وحبًا له، وعقلها يمنعها ويناديها أن تفتدي حياته برجله، ولم تدر ماذا تصنع؟ فوقفت وقلبها يتفطر ودمعها يتقاطر، وهو ينظر إليها نظر الغريق إلى من ظن أنه سينقذه، فلما رآها لا تتحرك، يئس منها، كما يئس من أبيه من قبل، وجعل ينادي أخاه [إِدغار] بصوت يختلط فيه النداء بالبكاء والعويل: إِدغار إِدغار، أين أنت يا إِدغار؟أسرع فساعدني ،إنهم يريدون أن يقطعوا رجلي،إدغار إدغار، وسمع أخوه إدغار ـ وهو أكبر منه بقليل ـ صراخه، فأقبل مسرعًا، فشد قامته ونفخ صدره، ووقف دون أخيه متنمِّرًا مستأسدًا، وفي عينيه بريق من عزيمة لا تُقهر، وأعلن أنه لن يدع أحدًا يقترب منه، وكلمه أبوه، ونصحته أمه، وهو يزداد حماسة، وأخوه يختبئ وراءه ويتمسك به، فيشدّ ذلك من عزمه، وحاول أبوه أن يزيحه بالقوّة، فهجم على أبيه وعلى الطبيب الذي جاء يساعده، واستأسد واستيأس، والإنسان إذا استيأس صنع الأعاجيب.
ألا ترون الدجاجة إذا هجم أحد على فراخها كيف تنفش ريشها وتقوم دون فراخه؟ والقطة إذا ضويقت كيف تكشِّر عن أنيابها وتبدي مخالبه؟ إن الدجاجة تتحول صقرًا جارحًا، والقطة تغدو ذئبًا كاسرًا، و [إدغار] صار رجلا قويًا، وحارسًا ثابتًا، يتزحزح الجدار ولا يتزحزح عن مكانه. وتركوه آملين أن يملَّ أو يكلَّ، فيبعد عن أخيه ولكنه لم يتزحزح، وبقي يومين كاملين واقفًا على باب غرفة أخيه يحرسه، لم يأكل في اليومين إلا لقيمات، قربوها إليه، ولم ينم إلا لحظات، والطبيب يجئ ويروح، ورجل الولد تزداد زرقة وورمًا، فلما رأى الطبيب ذلك نفض يده وأعلن أنها لم تبق فائدة من العملية الجراحية وأن الولد سيموت وانصرف، ووقفوا جميعًا أمام الخطر المحدق.
ماذا يصنع الناس في ساعة الخطر؟! إن كل إنسان مؤمنًا كان أو كافرًا يعود ساعة الخطر إلى الله؛ لأن الإيمان مستقر في كل نفس حتى في نفوس الكفار، ولذلك قيل له: [كافر]، والكافر في لغة العرب [الساتر] ذلك أنه يستر إيمانه ويغطيه، بل يظن هو نفسه أن الإيمان قد فقد من نفسه، فإذا هزّته الأحداث ألقت عن غطاءه فظهر.
قريش التي كانت تعبد هُبل واللات والعزى، إنما كانت تعبدها ساعة الأمن، تعبدها هزلا منها، فإذا جدَّ الجدُّ، وركب القرشيون السفينة، وهاج البحر من حولها بموج كالجبال، وصارت سفينتهم بيد الموج كريشة في كفّ الرياح، وظهر الخطر، وعمّ الخوف، بدأ الإيمان الكامن في أعماق النفس، فلم تُدْعَ اللات والعزى ولا هاتيك [ المَسْخرات]، ولكن دعت الله رب الأرض والسماوات، وعندما تغرق السفينة وتبقى أنت على لوح من الخشب بين الماء والسماء، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله. هذا فرعون الذي طغى وبغى، وتكبّر وتجبر، حتى قال أحمق مقالة قالها إنسان قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ ... [النازعات:24] لما أدرك الغرقُ فرعون قال: ﴿ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ... [يونس:90].
وعندما تضل في الصحراء، ويحرق العطش جوفك، وترى الموت يأتيك من كل مكان، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله!، وعندما تتعاقب سنوات القحط، ويمتد انقطاع المطر. وفي غمرة المعركة العابسة التي يرقص فيها الموت، وعندما يشرف المريض ويعجز الأطباء يكون الرجوع إلى الله. هنالك ينسى الملحد إلحاده، والماديُّ ماديته، والشيوعيّ شيوعيّته ويقول الجميع: يا الله !.
لما ذهب الطبيب واستحكم اليأس وملأ قلوب الجميع: قلب الولد الخائف، وأخيه المستأسد المتنمّر، وأبيه وأمه، واستشعروا العجز، ولم تبق في أيديهم حيلة، وبلغوا مرتبة [المضطر]، مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، ويطلبونه بلا سبب يعرفونه. لأنها قد تقطعت بهم الأسباب، والله الذي يشفي بسبب الدواء والطبّ، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء. مدّوا أيديهم وجعلوا يقولون: يا الله!! يدعون دعاء المضطر، والله يجيب دعوة المضطر ولو كان فاسقًا، ولو كان كافرًا، ما دام قد التجأ إليه، واعتمد عليه، ووقف ببابه، وعلق أمله به وحده، يُجيب دعوته إن طلب الدنيا، أما الآخرة فلا تُجاب فيها دعوته لأنه كافر لا يؤمن بالآخرة.
هؤلاء كفار قريش لما دعوا الله مخلصين له الدين استجاب دعاءهم ونجاهم إلى البر، بل هذا شرّ الخلق إبليس لمّا دعا دعاء المضطر، قال: ﴿ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ ... [الحجر:36]، قال له: ﴿ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴾ ... [الحجر:37].
ولو أمعنتم النظر في أسلوب القرآن لوجدتم أن الله لم يخبر في القرآن إِخبارًا أنه يجيب دعوة المضطر، لأن ذلك مشاهد معلوم، ولكن ذكره حجة على المشركين فقال: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴿60﴾ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿61﴾ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ ... [النمل: 60 - 62].
يا أيها القراء إنهم لما دعوا نظروا فإذا الورم بدأ يخف والزُّرقة تمحى والألم يتناقص، ثم لم يمض يومان حتى شفيت الرِجل تمامًا، وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه!!.
ستقولون هذه قصة خيالية أنت اخترعتها وتخيلتها، فما قولكم إن دللتكم على صاحبها، إن هذا الولد صار مشهورًا ومعروفًا في الدنيا كلها، وهو الذي روى القصة بلسانه، هذا الولد هو: أيزنهاور القائد العام لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورئيس أمريكا بعد ذلك!!.
وقد وقعت لي أنا حوادث رأيتُها وعشتُها، أو وقعت لمن كان حولي سمعتُها وتحققت منها. سنة 1957، مرضت مرضة طويلة لخيانة من طبيب شاب شيوعي، وضع لي جرثومة يسمونها العصيّات الزرقاء، قليلة نادرة في بلادنا، وكانت شكواي من حصاة في الكلية أقاسي من نوباتها آلامًا لا يعرف مداها إلا من قاساها، فانضممت إليها أمراض أخرى لم يكن لي عهد بها، وقضيت في المستشفى؛ مستشفى الصحة المركزي الكبير في دمشق، ثم في مستشفى كلية الطب بضعة عشر شهرًا، أقيم فيه، ثم أخرج منه ثم أعود إليه، وكانوا كل يوم يفحصون البول مرتين، وينظرون ما فيه، فلما طال بي الأمر، وضاق مني الصدر، توجهت إلى الله فسألته إحدى الراحتين، الشفاء إن كان الشفاء خيرًا لي، أو الموت إن كان في الموت خيرٌ لي ـ وكان يدعو لي كثير ممن يحبني وإن كنت لا أستحق هذا الحب من الأقرباء ومن الأصدقاء ـ فلما توجهت ذلك اليوم إلى الله مخلصًا له نيتي، واثقًا بقدرته على شفائي، سكن الألم، وتباعدت النوبات، وفحصوا البول كما كانوا يفحصونه كل يوم، فإذا به قد صفا، وزال أكثر ما كان فيه وعجب الأطباء واندهشوا، اجتمعوا يبحثون. فقلت لهم: لا تتعبوا أنفسكم فهذا شيء جاء من وراء طِبِّكم، إن الله الذي أمرنا أن نطلب الشفاء من الطب ومن الدواء، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء.
ولما قدمت المملكة سنة 1382هـ أقمت سنة في الرياض، ثم جئت مكة فلبثت فيها إلى الآن، كان معنا فيها رجل من الشام لا أسميه، كان مقيمًا في الرياض هو وأمه، فعرض له عمل اقتضى سفره إلى لبنان، كرهت أمه هذا السفر لئلا تبقى وحدها، فلما حلّ موعده حمل ثقله [أي حقائبه وأشياءه] إلى المطار فسلمه إلى الشركة وذهب إلى بيته على أن يأتي الفجر ليسافر.
ورجا أمه أن توقظه قبيل الفجر، فلم توقظه حتى بقى لموعد قيام الطيارة ثلاث أرباع الساعة، فقام مسرعًا وأخذ سيارة وحثَّ السائق على أن يبلغ به المطار ويضاعف له الأجر، وجعل يدعو الله أن يلحق بالطيارة قبل أن تطير، ولما وصل وجد أنه لا يزال بينه وبين الموعد ربع ساعة، فدخل المقصف وقعد على الكرسي فنام، ونودي من المكبر على ركاب الطائرة أن يذهبوا إليها، فلم يسمع هذا النداء وما صحا حتى كانت الطيارة قد علت في الجو، وكنت معه، فجعل يعجب كيف دعا الله بهذا الإخلاص دعاء المضطر ولم يستجب له؟.
وجعلت أهون الأمر عليه، وأقول له: إن الله لا يردّ دعوة داعٍ مخلص مضطر أبدًا، ولكن الإنسان يدعو بالشر دعاءه بالخير، والله أعلم بمصلحته منه، وأهمّ الغضب والحزن عن إدراك ما أقول. أفتدرون ماذا كانت خاتمة هذه القصة؟ لعل منكم من يذكر طيارة شركة الشرق الأوسط التي سقطت تلك السنة، وهلك من كان فيه؟ هذه هي الطيارة التي حزن على أنها فاتته.
إن الإنسان قد يطلب من الله ما يضره، ولكن الله أرحم به من نفسه، وإذا كان الأب يأخذ ولده الصغير إلى السوق فيرى اللعبة فيقول: أريدها، فيشتريها له، ويبصر الفاكهة الجميلة، فيوصله إليه، ويطلب الشُّكولاته فيشتري له ما يطلبه فإذا مرَّ على الصيدلية ورأى الدواء الملفوف بالورقة الحمراء، فأعجبه لونه، فطلبه، هل يشتريه له وهو يعلم أنه يضره؟ إذا كان الأب وهو أعرف بمصلحة ولده لا يعطيه كل ما يطلب لأنه قد يطلب ما لا يفيده، فالله أرحم بالعباد من آبائهم ومن أمهاتهم ومن ذويهم » .... [ كتاب الباب الذي لا يغلق في وجه سائل ص 1 – 20: الشيخ على الطنطاوي].